الاستطلاع الذي أجرته إسرائيل بمناسبة مرور 30 عاماً علي معاهدة كامب ديفيد بين القاهرة وتل أبيب مخاوف بعض المصريين من اندلاع حرب جديدة بين مصر وإسرائيل بعد أن أعرب اليهود عن أمنياتهم في هذا الاستطلاع بإعادة احتلال سيناء مرة أخري.
الصحف الخاصة تعاملت مع الاستطلاع علي أنه حقيقة واقعة وأن الجيش الإسرائيلي بدأ التحرك فعلاً تجاه سيناء.. لم يسألوا أنفسهم هل تستطيع إسرائيل ذلك؟ وهل إذا ما أعرب 89% من اليهود عن رغبتهم في انتزاع سيناء مرة أخري يتحول حلمهم إلي حقيقة وكأنهم "يفركون" مصباح علاء الدين! .. كان الواجب يقتضيهم أن تسأل الصحف الخاصة عسكريين حقيقيين عن إمكانية تحقيق أضغاث أحلام إسرائيل. لكنهم لم يفعلوا.. ولعل ما أدهشني أن برلمانيين بحجم وثقل زميلنا مصطفي بكري قالوا إن سيناء منزوعة السلاح ولا يتجاوز عدد جنودها 1500 جندي.
المهم أن الاستطلاع الإسرائيلي جاء فرصة ذهبية لخدمة الإخوان والناصريين ليدقوا طبول الحرب من مكاتبهم المكيفة وسياراتهم المرسيدس ويكتسبوا تعاطف الشارع معهم لما لإسرائيل من كراهية.
ويبقي السؤال الخالد هل تستطيع مصر الصمود في وجه إسرائيل إذا ما انتابتها حماقة القوة وقررت اجتياح سيناء؟
وهل هناك قوات في أرض الفيروز تستطيع التصدي لأي هجوم إسرائيلي؟.. هذا هو التساؤل الذي ينبغي الرد عليه. أما خلاف ذلك فأحاديث مقاهي وعنتريات و"طق حنك" للذين يدافعون عن دول مثل سوريا وإيران وقطر والتي لم تطلق صاروخاً واحداً ضد إسرائيل. بل إن دمشق لم تفكر- مرة واحدة- في إسقاط طائرة واحدة من عشرات المقاتلات التي أغارت علي المواقع السورية سواء أثناء الوجود العسكري السوري في لبنان أو في دمشق نفسها.
لكن دعونا قبل أن نستطرد في تحليل الموقف العسكري لسيناء بعد السلام أن ندرك معناها في لغة التوراة التي نزلت علي موسي.. سيناء اسمها "حوريب" وتعني بلغة اليهود الأرض الخراب.. صحيح أن لها قدسية عندهم حيث كلم موسي ربه "وناديناه من جانب الطور الأيمن" وخلع فيها نعليه عندما دخل الوادي المقدس.. لكن ذلك كله شيء. واليقين الراسخ لدي اليهود بأن سيناء هي صحراء التيه التي تاهوا فيه 40 عاماً.
سيناء قهرت الحيثيين في عهد تحتمس أيام قدماء المصريين والفرس والصليبيين وأخيراً الإسرائيليين.. وصفها القلقشندي في موسوعته وذكرها النابلسي وشغلت مكانة سامية في كتب التاريخ باعتبارها منفذ مصر الرئيسي وحتي نرد علي ما جاء في الاستطلاع المزعوم يهمني توضيح الآتي:
أولاً : سيناء بها تسليح وعتاد ورجال أكثر من أي وقت مضي.. معاهدة السلام تسمح لمصر بالاحتفاظ بفرقة مشاة ميكانيكية من أربعة ألوية بحجم 30 ألف فرد ومزودة بـ 240 دبابة و168 مدفعاً ميدانياً و480 سيارة مدرعة و168 من المدافع المضادة للدبابات.. تسمح معاهدة السلام لمصر بقيام طلعات للسلاح الجوي المصري فوق سيناء كما أن بها عدداً لا نهائياً من الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات المحمولة علي الكتف.
معاهدة السلام تنص علي انتشار هذه الأسلحة والجنود في المنطقة من شرق مضايق تيران وحتي قناة السويس علي أن تكون في دفاعات حصينة والمعروفة باسم المنطقة "أ".. يقول علماء العسكرية وعلي رأسهم الماريشال مونتجمري الذي زار سيناء عام 1965 بمناسبة مرور 20 عاماً علي انتهاء الحرب العالمية وانتصاره علي الألمان في معركة العلمين "من يملك المضايق يملك سيناء".. قواتنا كما أسلفت متمركزة فيها.. المنطقة "ب" والتي تليها وتصل إلي شرق العريش ورأس محمد يتم تأمينها بأربعة آلاف جندي من حرس الحدود بتسليح قوي أما المنطقة "ج" حتي الحدود الدولية فيتولاها عناصر شرطة محلية إضافة للأمن المركزي وهؤلاء كان عددهم 750 جندياً زادوا إلي 1500 وهم الذين يتصور نواب البرلمان والأستاذ هيكل وقناة "الجزيرة" أنهم هم فقط الذين يتولون حمايتنا.
ثانياً : نفس المنطقة منزوعة السلاح توجد داخل إسرائيل ولعمق 3 كيلو مترات وليس بها دبابات أو مدافع أو مطارات ومجموع الجنود فيها أربعة آلاف جندي فقط و480 سيارة مدرعة هذا إلي جانب القوات المتعددة الجنسية ومراكز الإنذار المبكر التي تؤمن تنفيذ عملية السلام وتشرف عليها أمريكا.. والسؤال الذي ينبغي أن نسأله لأنفسنا الآن: هل هذه القوات- في حالة هجوم إسرائيل المستحيل علي سيناء- هي التي ستدافع عنها.. والإجابة بالقطع لا.. لكن الجيش المصري بأكمله سيكون جاهزاً للدفاع عن كل حبة رمل من أرض الفيروز.
ثالثا ً: لا يمكن لإسرائيل الاعتداء علي سيناء مثلما حدث عام 1967 فقد كانت هذه حرب القرارات الخاطئة انساق إليها عبدالناصر وهو غير مستعد فكان ما كان.. إسرائيل تعلم تمام العلم أن هناك توازناً نوعياً وكمياً في التوازن الاستراتيجي بينها وبين مصر. وحتي مع وجود القوة النووية الإسرائيلية فإن مصر تملك رادعاً قوياً يستطيع إحداث دمار شامل بإسرائيل وهو الحرب الكيميائية.
عوامل التوازن الاستراتيجي بين البلدين في صالح مصر فمساحة إسرائيل 21 ألف كيلو متر مربع أما مصر فأكثر من مليون كيلو متر مربع.. عدد سكان مصر 80 مليوناً وإسرائيل 6 ملايين.
مصر تمتلك أكثر من حائط صواريخ يمكنها وقف الهجوم قبل أن يبدأ.. الحروب الحديثة لا تعتمد علي الحدود بقدر ما تعتمد علي تحريك بعيد المدي للأسلحة الهجومية وهو ما يطلق عليه هجوم الريموت كنترول.. وإذا ما تحدثنا عن توازنات المصالح وحرية الحركة والمناورة ومنظومة الأمن القومي نجدها كلها في صالح مصر.. ناهيك أن معدل القتلي عام 1973 كان قتيلاً إسرائيلاً لكل ألف من السكان أي 4000 قتيل الآن سيكون هناك 8 قتلي لكل ألف قتيل من السكان "6 ملايين" أي 50 ألف قتيل تتكبدهم إسرائيل فهل هي مستعدة لذلك؟
رابعاً : المهتمون بالشأن الإسرائيلي يدركون أن الدولة العبرية رغم جبروتها وقوتها وأطماعها التوسعية فإن أهم ما يشغلها الآن هو البقاء وليس التوسع.. من ثم فإنه مع حالة القلق تلك لا يمكن أن تشعل صراعاً جديداً في المنطقة في الوقت الذي تجاهد فيه للبقاء.
خامساً : ينسي كثيرون أن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية هي ضمان أمريكي لاستقرار مصالح الولايات المتحدة بالمنطقة وأي مساس بعملية السلام معناه ضرب المصالح الأمريكية نفسها.. وهنا لابد من طرح سؤال هام: هل ستوافق واشنطن علي إعطاء إسرائيل ضوءاً أخضر بالهجوم علي سيناء أو إشعال حرب جديدة في الشرق الأوسط؟ وهل لإسرائيل القدرة علي فتح أكثر من جبهة في ظل تراجع الخبرات القتالية للجيش الذي لا يقهر بعد أن عطلته وقهرته صواريخ الكاتيوشا في لبنان.
ومن ثم فإن أهم ما نستنتجه من هذه العجالة أننا لا ينبغي أن نهتم بأي استطلاعات للرأي في إسرائيل بهذا الشكل المبالغ فيه لأن فيه خدمة لأهداف تل أبيب في إشاعة الروح الانهزامية وتحطيم معنويات المصريين
مقالة الاستاز محمد على ابراهيم رئيس تحرير جريدة الجمهوريه
المفضلات