يوم دخل المسلمون القدس

بعد أن انتصر صلاح الدين انتصاراً ساحقاً في موقعة حطين، و أفني معظم الجيش الصليبي، توجه نحو الشمال و استولي علي المدن الساحلية عكا و بيروت بسهولة. فقد كان يريد أن يؤمن المدن الساحلية حتي يقطع أي خط امدادات محتمل من أوروبا للقدس. و لكن صلاح الدين توقف عند مدينة صور ، فقد فوجئ بتحصينات قوية تحول دون استيلائه عليها. و كان يقود الدفاع عن المدينة القائد القوي العنيف كوندراد دي مونفرا حاول صلاح الدين أن يساوم كونراد علي إطلاق سراح ابيه وليم الذي كان في أسر المسلمين في مقابل تسليم المدينة. و لكن رد كونراد جاء مفاجئاً لصلاح الدين، فقد صاح من فوق أسوار المدينة " قطعه إرباً، فماذا يهمني، سأكون أول من يطلق عليه سهماً، لأنه عجوز لا قيمة له". و بالفعل أطلق كونراد سهماً علي والده الذي كان قريب من أسور المدينة.

علم صلاح الدين أن حصاره لصور سيستمر طويلاً، و قد يفقده الفرصة الذهبية لاستعادة القدس و المدن الساحلية الأخري قبل أت تصل امدادات صليبية جديدة من أوروبا. لذلك قرر ترك صور و التوجه إلي أهداف أخري أقل مناعة، فاستولي علي قيسارية و أرسوف و يافا حتي وصل إلي عسقلان.و عند عسقلان دارت مفاوضات بين المدافعين عن المدينة الصليبيين و صلاح الدين، طلبوا فيها الاستسلام مقابل العفو عنهم و تركهم يرحلوا في سلام، فقبل لهم ذلك. و بذلك اكتملت سيطرة صلاح الدين علي سواحل فلسطين من بيروت إلي عسقلان ماعدا صور. فقرر أن الوقت قد حان للتوجه نحو القدس التي أصبحت معزولة عن أي طريق امدادات من أوروبا.

توجه صلاح الدين نحو القدس يوم 19 سبتمبر 1187 م، و وصل إلي أسوارها في اليوم التالي، و بعد تفقده للأسوار بدأ الهجوم بالمنجانيق و السهام الكثيفة. و لكن ذلك لم يغير من الوضع شيئاً. فقد كانت المدينة محصنة جيداً، و حاميتها الصليبية مستميتة في الدفاع عنها. كان يقود الدفاع عن المدينة القائد الصليبي باليان أوف إبلين، و كان من النبلاء الكبار، نجا بأعجوبة من موقعة حطين و هرب إلي صور. و في أثناء حصار صلاح الدين لصور استأذنه باليان في الذهاب إلي القدس لإحضار زوجته. فوافق له صلاح الدين مقابل القسم بعدم حمل السلاح ضد المسلمين. و لكن ما كاد باليان يصل إلي القدس حتي استحثه الصليبيون علي التخلي عن قسمه و قيادة الدفاع عن المدينة ضد جيش المسلمين الذي سيدق أبواب القدس في غضون أيام. لم يدر باليان ماذا يفعل، هل يأخذ زوجته و يهرب، أم يحنث بقسمه و يتولي الدفاع عن المدينة ضد صلاح الدين الذي أعطاه الأمان من قبل.

و حتي لا يحنث باليان بقسمه أرسل إلي صلاح الدين يطلب منه أن يحله من قسمه الذي قطعه علي نفسه بألا يحمل السلاح ضد المسلمين. و الغريب أن صلاح الدين رد عليه و أحله من قسمه بالفعل. و ربما يرجع تفسير ذلك إلي فروسية مثالية من صلاح الدين أو ثقة شديدة أن باليان لن يحول دون سقوط المدينة في يد المسلمين، أو ربما الأثنين معاً.

بعد يومين من ضرب أسوار القدس عند باب دمشق، بدأت الأسوار تترنح و حدث فيها خرق بالفعل. فأضطر بطريرك المدينة أيراكليوس إلي عرض خمسة آلاف بيزنطية ذهبية علي خمسين من شباب المدينة الصليبيين لحراسة السور الذي حدث فيه خرق. و كان ذلك أكثر بخمسمائة مرة من أجر الجندي العادي. و لكن البطريرك لم يجد الخمسين. بدأ يتضح لباليان أن الموقف ميئوس منه، و أن مصير المدينة هو السقوط إن عاجلاً أو آجلاً بسبب هذا الخرق الذي يوشك أن يتسع فيسمح بدخول جنود المسلمين.فرأي أن يفاوض صلاح الدين علي استسلام المدينة مقابل العفو عن الصليبيين ليرحلوا إلي أوروبا. و أرسل بذلك إلي صلاح الدين. و لكن صلاح الدين كان مشحوناً بذكريات دخول الصليبيين إلي مقدس منذ 88 سنة مضت و المذابح التي ارتكبوها في المدينة التي سالت فيها دماء مئات الآلاف من المسلمين و اليهود في الشوارع و المساجد. و كان رد صلاح الدين عنيفاً قائلاً " رجالي العقلاء يقولون إنه لا يمكن تنظيف المدينة إلا بالدم المسيحي، و مستشاريٌ يقولون إن عليٌ أن آخذ بثأر أولئك المسلمين الذين قتلهم جودفري في الشوارع، بل و في الكنائس و المساجد". و فشلت المفاوضات المرة تلو الأخري، حتي جاء باليان بنفسه لمقابلة صلاح الدين يطلب تسليم المدينة مقابل العفو عن سكانها من الصليبيين. و لكن صلاح الدين رفض. فهدده باليان إن هو رفض العفو أن يقوم الصليبيون بقتل الأسري من المسلمين و عددهم خمسة آلاف، و تدمير المسجد الأقصي و قبة الصخرة. خشي صلاح الدين أن ينفذ باليان تهديده، فأبدي مرونة في التفاوض. و انتهت المفاوضات علي أن تستسلم المدينة، و يفدي الصليبيون أنفسهم بدفع مبلغ محدد قدره عشر بيزنطيات علي كل رجل، و خمس علي كل إمرأة، و بيزنطية واحدة علي كل طفل.

دخل صلاح الدين الأيوبي مدينة القدس في ال27 من شهر رجب 583 هج / 1 أكتوبر 1187 م. و أمر بإزالة كل ما أحدثه الصليبيون بمسجد قبة الصخرة. فقد كان الصليبيون قد حولوه إلي كنيسة، و بسطوا علي صخرة المعراج الرخام، بحيث لم يعد ممكناً رؤية أثر قدم النبي صلي الله عليه و سلم. و صعد المسلمون إلي أعلي قبة الصخرة، و أنزلوا عنها الصليب المعدني الضخم المذهب. أما المسجد الأقصي الذي كان الصليبيون قد حولوه إلي مبني إداري و اسطبل لخيول فرسان الهيكل، فقد قام المسلمون بتنظيفه و رشوه بماء الورد، و أعادوا بناء المحراب و كتب عليه اسم صلاح الدين و النص التالي " بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بإصلاح هذا المحراب المبارك، و المسجد الأقصي الذي أُسس علي التقوي عبد الله و سلطانه الملك الناصر صلاح الدين، بعد أن فتح الله علي يديه المدينة في شهر رجب سنة 583. يسأل السلطان الله سبحانه رحمته و رضاه، و أن يغفر له ذنوبه و خطاياه برحمته و عفوه". رفض صلاح الدين رأي من أشاروا عليه بهدم كنيسة القيامة، فظلت الكنيسة مفتوحة للمسيحيين. ولكنه حوٌل كنيسة أخري إلي رباط للصوفية.
استغرق خروج الصليبيين من المدية 40 يوماً، بعد دفع الفدية المقررة. و لقد طلب المسيحيون الأرثوذكس البقاء في المدينة، فأذن لهم صلاح الدين.

يقول أحد كتاب التاريخ الأوروبيين " هكذا سلك جنود صلاح الدين سلوكاً مثاليا في احتلالهم للقدس سنة 1187 م. و قد نظر صلاح الدين لنفسه و سمعته بعدم الانتقام لما فعله الصليبيون في الحرب الأولي سنة 1099م. و بسبب حمايته لكنيسة القيامة، و أماكن مسيحية أخري كثيرة، سيتذكر الجميع تسامحه تجاه أهل الأديان الأخري، و تجاه الأماكن المقدسة للدين المسيحي. و يبدو أن أفعاله اعتبرت علماً و نموذجاً علي كيفية سلوك المسلم الصالح. فبسبب عفوه، ووجوه الخير المتعددة في طبيعته، و سلوكه تجاه أعدائه، سيظل مشهوراً إلي الأبد باللطف و التسامح و الحكمة. "
لمسابقة الجديدة ديسمبر 2010
الفجر الساطع
لنرتقى