دعاء الكروان
02-05-2009, 11:18 AM
كان الجو رائعاً ، وقد غرّدتْ العصافيرُ على شرفة المنزل ، فكل شيئٍ اليوم يوحى بالجمال ، فاليوم هو الاثنين الثانى عشرَ من أكتوبر 1992 ، وهو عيد ميلاد زوجتى الأسبانية ، وكم ستفرحُ طفلتى هايدى كثيراً لهذا الاحتفال ؛ ولرؤية جدتها والتى تدللها كثيراً ، وتُحضر لها ألعاب الأطفال التى تحبها ....
وما إنْ أذن لصلاة العصر حتى حضرتْ الحاجة أم أكمل لاهثةً ؛ لصعودها الطابق السابع ؛ نظراً لتعطُّل المصعد ، ثم راحتْ تصلى فرض الله ، وأخذ أكمل يداعبُ طفلته ، ومازالتْ زوجتُه مشغولةً بإعداد الحلوى ، للاحتفال بيوم ميلادها ....
كم هى حُلوة هذه الدنيا !...كم نلاقى فيها مانتمناه!... رغم مظاهر الفرح إلا أنَّ قلب أكمل كان يحدوه القلقُ ، ولايعرفُ سبباً لذلك ...
وفجأةً بدأ الاهتزازُ ... فى زلزالٍ ... لم تشهدْ له القاهرةُ شبيهاً له من قبل ، وأخذ صوتُ انشقاق الحوائط يعلو ويزدادُ ، وارتفع نواحُ النساء من كل حدبٍ وصوبٍ ، والكل عاجزٌ عن فهم مايحدثُ ...
واختلفتْ الآراءُ :
- فالبعض جرى مذعوراً زاعماً بأنه يوم القيامة ، وأخذ يذكرُ الله مستغيثاً ...
- والبعض الآخر يقولُ بأنها إسرائيل وقد خرقتْ معاهدتها فى السلام معنا ، وغدرتْ بنا ؛ لأن الصهاينة ليس لهم أمانٌ ...
والكل يجرى ...الكل يهرعُ ...الكل مذعورٌ...
والكل يتذكرُ الله الذى نسيه ...
- فهذه أمٌ هرعتْ تاركةً رضيعها على فراشه ؛ لتنجو بعمرها ، ولكنَّ درج المنزل انهار بها ؛ لتموتَ هى ، فى حينٍ ينجو رضيعُها !...
- وهذا صبىٌّ وقد حمل جدته العجوز على كتفه ، وانطلق بها للشارع قبل انهيار المنزل ...
وهذه زوجةٌ جديدةٌ وقد هرعتْ للشارع مفزوعةً ، ولم تنتبه بأنها بملابسها الداخلية ....
أما أكمل فلقد احتضن زوجته وطفلته ، فى حين أصرتْ أمه أن تظل على سجادة الصلاة ، وأكملتْ صلاتها ، ولكنَّ منزلهم الجديد والذى لم يبنيه مهندسو العصر الحديث بضميرٍ قد هوى وانهار فى غمضة عينٍ ، فى حين وقفتْ الأهرامُ التى بنيتْ منذ آلاف السنين شامخة لاتهتزُّ أبداً لعوارض الزمن ! ....
راح أكمل فى إغماءةٍ قليلةٍ ، ثم استيقظ ؛ ليجد نفسه تحت الأنقاض ، وأخذ يتنفسُ بصعوبةٍ وسط الركام ، وبدأ يتحسسُ حوله ، فوجد بجواره زوجته وطفلته يئنان فى جراحهما ، وأخذوا يصرخون ... يستنجدون ... يستغيثون ... ينادون ، ولايسمعُ أحدٌ ندائهم... ومرَّتْ الساعاتُ متثاقلةً ... بطيئةً بطءَ السحاب ، واشتدَّ الإجهادُ ، وبدأتْ طفلته هايدى تعانى من الظمأ الشديد ، وأكمل حائرٌ وعاجزٌ عن تخفيف آلامها ، فاضطر أن يتبولَ على ملابسه الداخلية العُليا ؛ ليعطيها لطفلته ؛ حتى ينقذها من الموت ظمأً ، لكن طفلته تقززتْ رافضةً ، وظلتْ على عطشها الشديد ، ومازالتْ ترددُ : إنى ظمآنةٌ يا أبى
ولم تسعفه دموعه التى جفَّتْ حتى تهاوتْ طفلتُه بين يديه ، وصعدتْ روحُها إلى السماء ؛ لترتاح من آلامٍ عجز الأقوياءُ عن تحملها ، فصرختْ الأمُ صرخة هيستيريةً مدويةً فى ذلك القبر القدرى ، حيث امتلأ قلبها بالحسرة والآلام ...
وفى اليوم الثانى لم تتحملْ الأمُ الأسبانية آلام الظمأ ، وقسوة الجوع ، وصدمة فراق طفلتها ، فلحقتْها إلى العالم الآخر ، ووجد أكمل نفسه وحيداً حيَّاً فى قبرٍ ضمَّ زوجته وطفلته ، وأمه على بُعد خطواتٍ منه ، فتذكَّر سيدنا يونس - عليه السلام - فى بطن الحوت ، فنادى ربه متهدجاً :
لاإله إلا أنتَ سبحانَكَ إنى كنتُ من الظالمين
وفى اليوم الثالث أخذ العمالُ يرفعون أنقاض المنزل المتهدم ، فسمعوا أنين استغاثة يتهادى من الأعماق ؛ فجاءتهم الأوامرُ بالحذر فى الحفر ؛ حتى يتبينوا حقيقة ذلك الصوت ، وجاءتْ عدساتُ التلفزيون ؛ لتصور ذلك الحدث ، وأكمل لايفقد ثقته بالله ، وقد تهيَّأتْ نفسُه للوفاة ، وظل يرددُ الشهادتين وغفا قليلاً .....
أفاق أكمل على صوت الحفر الذى اقترب منه ، فظن أنهم ملائكة القبر وقد جاءوا ؛ ليحاسبوه على أعماله فى الدنيا ، فازداد رعباً ، وعلا صراخُه ، حتى تيقَّن عُمَّالُ الحفر من وجود شخصٍ حىٍّ تحت الأنقاض ؛ فأسرع الجميعُ لإنهاء الحفر ، حتى أشرقتْ شمسُ الحياة على ذلك القبر المظلم تحت الأنقاض ، فوقف العُمَّال مذهولين أمام تلك المعجزة ، والكل يبكى ويردد :
الله أكبر ... الله أكبر
والملايينُ أمام شاشات التلفزيون تبكى بحاراً من الدموع ذاكرة الله - تعالى - فى لحظةٍ من الصفاء البشرىّ...
أما أكمل فلقد تغيَّرتْ حياته تماماً بعد هذا الحادث الرهيب ، وأصبح ملازماً للمسجد فى كل الأوقات ، وزهد الحياة بكل مافيها من ترفٍ وغرورٍ...
وكلما سجد فى الصلاة اغرورقتْ عينُه بالدموع ؛ ليبث لله شكواه وآلام وحدته ، بعدما فقد زوجته وأمه وطفلته ...
ومرَّتْ عدة أعوامٍ على ذلك الحادث ، حتى جاء يومُ العيد ، وامتلأتْ ساحة المسجد على آخرها ، والكل فرحانٌ بيوم العيد ، وبينما أكمل يسجد إذ به يسمعُ صوت طفلته الراحلة هايدى ترددُ :
أنا ظمآنةٌ ياأبى
فنزفتْ دموعُه غزيرةً ، وتذكَّر عجزه أن يسقيها تحت الأنقاض ، ولكنَّ طفلته ابتسمتْ قائلةً له :
إنى ظمآنةٌ ياأبى للقائكَ
تعالَ الآن لتكون معنا
أنا وأمى وجدتى
وانتهتْ الصلاةُ وأكمل مازال ساجداً ، فذهب له المصلون ؛ ليتبينوا حاله ، فوجدوه وقد فاضتْ روحُه صاعدةً إلى ربها ، فكبَّر الآلاف فرحين بموت أكمل ساجداً ، وقد تمنى الكل لو تكون تلك النهاية نهايته ، وتهيأوا ليصلوا عليه صلاة الجنازة ، ونظر إمام المسجد الذى يعرف أكمل ، ويعرفُ حكايته ؛ ليردد قول الله تعالى :
(وما تدرى نفسٌ ماذا تكسب غدا وما تدرى نفسٌ بأى أرضٍ تموت )
وما إنْ أذن لصلاة العصر حتى حضرتْ الحاجة أم أكمل لاهثةً ؛ لصعودها الطابق السابع ؛ نظراً لتعطُّل المصعد ، ثم راحتْ تصلى فرض الله ، وأخذ أكمل يداعبُ طفلته ، ومازالتْ زوجتُه مشغولةً بإعداد الحلوى ، للاحتفال بيوم ميلادها ....
كم هى حُلوة هذه الدنيا !...كم نلاقى فيها مانتمناه!... رغم مظاهر الفرح إلا أنَّ قلب أكمل كان يحدوه القلقُ ، ولايعرفُ سبباً لذلك ...
وفجأةً بدأ الاهتزازُ ... فى زلزالٍ ... لم تشهدْ له القاهرةُ شبيهاً له من قبل ، وأخذ صوتُ انشقاق الحوائط يعلو ويزدادُ ، وارتفع نواحُ النساء من كل حدبٍ وصوبٍ ، والكل عاجزٌ عن فهم مايحدثُ ...
واختلفتْ الآراءُ :
- فالبعض جرى مذعوراً زاعماً بأنه يوم القيامة ، وأخذ يذكرُ الله مستغيثاً ...
- والبعض الآخر يقولُ بأنها إسرائيل وقد خرقتْ معاهدتها فى السلام معنا ، وغدرتْ بنا ؛ لأن الصهاينة ليس لهم أمانٌ ...
والكل يجرى ...الكل يهرعُ ...الكل مذعورٌ...
والكل يتذكرُ الله الذى نسيه ...
- فهذه أمٌ هرعتْ تاركةً رضيعها على فراشه ؛ لتنجو بعمرها ، ولكنَّ درج المنزل انهار بها ؛ لتموتَ هى ، فى حينٍ ينجو رضيعُها !...
- وهذا صبىٌّ وقد حمل جدته العجوز على كتفه ، وانطلق بها للشارع قبل انهيار المنزل ...
وهذه زوجةٌ جديدةٌ وقد هرعتْ للشارع مفزوعةً ، ولم تنتبه بأنها بملابسها الداخلية ....
أما أكمل فلقد احتضن زوجته وطفلته ، فى حين أصرتْ أمه أن تظل على سجادة الصلاة ، وأكملتْ صلاتها ، ولكنَّ منزلهم الجديد والذى لم يبنيه مهندسو العصر الحديث بضميرٍ قد هوى وانهار فى غمضة عينٍ ، فى حين وقفتْ الأهرامُ التى بنيتْ منذ آلاف السنين شامخة لاتهتزُّ أبداً لعوارض الزمن ! ....
راح أكمل فى إغماءةٍ قليلةٍ ، ثم استيقظ ؛ ليجد نفسه تحت الأنقاض ، وأخذ يتنفسُ بصعوبةٍ وسط الركام ، وبدأ يتحسسُ حوله ، فوجد بجواره زوجته وطفلته يئنان فى جراحهما ، وأخذوا يصرخون ... يستنجدون ... يستغيثون ... ينادون ، ولايسمعُ أحدٌ ندائهم... ومرَّتْ الساعاتُ متثاقلةً ... بطيئةً بطءَ السحاب ، واشتدَّ الإجهادُ ، وبدأتْ طفلته هايدى تعانى من الظمأ الشديد ، وأكمل حائرٌ وعاجزٌ عن تخفيف آلامها ، فاضطر أن يتبولَ على ملابسه الداخلية العُليا ؛ ليعطيها لطفلته ؛ حتى ينقذها من الموت ظمأً ، لكن طفلته تقززتْ رافضةً ، وظلتْ على عطشها الشديد ، ومازالتْ ترددُ : إنى ظمآنةٌ يا أبى
ولم تسعفه دموعه التى جفَّتْ حتى تهاوتْ طفلتُه بين يديه ، وصعدتْ روحُها إلى السماء ؛ لترتاح من آلامٍ عجز الأقوياءُ عن تحملها ، فصرختْ الأمُ صرخة هيستيريةً مدويةً فى ذلك القبر القدرى ، حيث امتلأ قلبها بالحسرة والآلام ...
وفى اليوم الثانى لم تتحملْ الأمُ الأسبانية آلام الظمأ ، وقسوة الجوع ، وصدمة فراق طفلتها ، فلحقتْها إلى العالم الآخر ، ووجد أكمل نفسه وحيداً حيَّاً فى قبرٍ ضمَّ زوجته وطفلته ، وأمه على بُعد خطواتٍ منه ، فتذكَّر سيدنا يونس - عليه السلام - فى بطن الحوت ، فنادى ربه متهدجاً :
لاإله إلا أنتَ سبحانَكَ إنى كنتُ من الظالمين
وفى اليوم الثالث أخذ العمالُ يرفعون أنقاض المنزل المتهدم ، فسمعوا أنين استغاثة يتهادى من الأعماق ؛ فجاءتهم الأوامرُ بالحذر فى الحفر ؛ حتى يتبينوا حقيقة ذلك الصوت ، وجاءتْ عدساتُ التلفزيون ؛ لتصور ذلك الحدث ، وأكمل لايفقد ثقته بالله ، وقد تهيَّأتْ نفسُه للوفاة ، وظل يرددُ الشهادتين وغفا قليلاً .....
أفاق أكمل على صوت الحفر الذى اقترب منه ، فظن أنهم ملائكة القبر وقد جاءوا ؛ ليحاسبوه على أعماله فى الدنيا ، فازداد رعباً ، وعلا صراخُه ، حتى تيقَّن عُمَّالُ الحفر من وجود شخصٍ حىٍّ تحت الأنقاض ؛ فأسرع الجميعُ لإنهاء الحفر ، حتى أشرقتْ شمسُ الحياة على ذلك القبر المظلم تحت الأنقاض ، فوقف العُمَّال مذهولين أمام تلك المعجزة ، والكل يبكى ويردد :
الله أكبر ... الله أكبر
والملايينُ أمام شاشات التلفزيون تبكى بحاراً من الدموع ذاكرة الله - تعالى - فى لحظةٍ من الصفاء البشرىّ...
أما أكمل فلقد تغيَّرتْ حياته تماماً بعد هذا الحادث الرهيب ، وأصبح ملازماً للمسجد فى كل الأوقات ، وزهد الحياة بكل مافيها من ترفٍ وغرورٍ...
وكلما سجد فى الصلاة اغرورقتْ عينُه بالدموع ؛ ليبث لله شكواه وآلام وحدته ، بعدما فقد زوجته وأمه وطفلته ...
ومرَّتْ عدة أعوامٍ على ذلك الحادث ، حتى جاء يومُ العيد ، وامتلأتْ ساحة المسجد على آخرها ، والكل فرحانٌ بيوم العيد ، وبينما أكمل يسجد إذ به يسمعُ صوت طفلته الراحلة هايدى ترددُ :
أنا ظمآنةٌ ياأبى
فنزفتْ دموعُه غزيرةً ، وتذكَّر عجزه أن يسقيها تحت الأنقاض ، ولكنَّ طفلته ابتسمتْ قائلةً له :
إنى ظمآنةٌ ياأبى للقائكَ
تعالَ الآن لتكون معنا
أنا وأمى وجدتى
وانتهتْ الصلاةُ وأكمل مازال ساجداً ، فذهب له المصلون ؛ ليتبينوا حاله ، فوجدوه وقد فاضتْ روحُه صاعدةً إلى ربها ، فكبَّر الآلاف فرحين بموت أكمل ساجداً ، وقد تمنى الكل لو تكون تلك النهاية نهايته ، وتهيأوا ليصلوا عليه صلاة الجنازة ، ونظر إمام المسجد الذى يعرف أكمل ، ويعرفُ حكايته ؛ ليردد قول الله تعالى :
(وما تدرى نفسٌ ماذا تكسب غدا وما تدرى نفسٌ بأى أرضٍ تموت )